بعد نحو ثمانين عاماً على نهاية حرب الريف، التي ألقت خلالها الجيوش الاسبانية 20 ألف قنبلة محملة بغاز الخردل السام على التجمعات السكنية في الشمال المغربي، لاتزال البقايا السامة تقتل الأرض التي يكاد لا ينبت فيها شيء، وتصيب البشر بالسرطان, «جمعية الدفاع عن ضحايا الغازات السامة بالريف» تستعد لنقل الملف الى المحافل الدولية المختصة، وكتاب المؤرخ البريطاني سيباستيان بالفور الصادر اخيراً يقدم أدلة الإدانة,,.أ
أتى دور اسبانيا لتحذو حذو ايطاليا فتبادر الى الاعتراف بجريمتها، وتعتذر عن المآسي التي اقترفتها في شمال المغرب،« مثلما فعلت ايطاليا عندما اعتذرت في 1997 عما اقترفه جيشها في اثيوبيا (خلال استعمارها للبلد),,,»أ
الكلام هنا لبالفور، والمناسبة حفل تقديم مؤلفه الجديد «العناق القاتل»، في طنجة بمبادرة من «النقابة الوطنية للصحافة المغربية» و«جمعية ضحايا الغازات السامة بالريف», والكتاب الذي صدر خلال مارس الماضي عن احدى دور النشر الاسبانية، يقع في نحو 270 صفحة من القطع المتوسط, وهو في رأي مؤلفه «محاولة للتقييم الموضوعي لما ارتكبته آلة الحرب الاسبانية ضد المقاومة المغربية», وقد تطلب من المؤرخ البريطاني 5 سنوات من العمل والبحث في أرشيف المكتبات العسكرية الاسبانية والفرنسية، فضلاً عن زياراته الميدانية لمنطقة الريف لمجالسة الضحايا الذين لايزالون على قيد الحياة.أ
الجرائم الاستعمارية مازالت حية في الشمال المغربي، ومخلفاتها المدمرة مازالت تفتك بالبيئة وبالإنسان, فالكثير من أراضي منطقة الريف لا ينبت منذ نهاية الحرب قبل نحو ثمانين عاماً شيئاً، وهي عبارة عن حقول جرداء على امتداد الفصول.أ
اما البشر، فقد دفع وضعهم الصحي الكارثي ببعض الغيورين من ابناء المنطقة الى انشاء منظمة غير حكومية لتبني ملفهم، منذ سنتين، اطلقوا عليها اسم «جمعية الدفاع عن ضحايا الغازات السامة بالريف», ويقول إلياس العماري رئيس الجمعية: «ظهر مرض السرطان في منطقة الريف منذ عشـــرينيات القــــرن الماضـــي، وكان يسمى باللهجة المحلية (أخنزير)، واليوم زهاء نصف المغاربة المرضى بالسرطان يتحدرون من منطقة الريف!».أ
خلال حرب الريف (21 ـ 1927)، لجأت اسبانيا الى استعمال الاسلحة الكيماوية بشكل مكثف ضد سكان الشمال المغربي الذين هزموها في معركة أنوال الشهيرة, ولم تسلم قرية او هضبة أو جيل من القنابل المحملة بغاز الخردل الفتاك المصنوعة في المانيا والمحمولة على طائرات فرنسية, وفي العام 1925، بعث عبدالكريم الخطابي وهو قائد المقاومة في الريف إنذاراً الى الصليب الأحمر الدولي ينبهه الى ان قصف المواقع المدنية بالقنابل الكيماوية يمثل خرقاً لاتفاقية جنيف, لكن القصف لم يتوقف حيث تشير الوثائق الحربية الى ان مجموع القنابل التي ألقيت فوق المنطقة وصلت الى 20 ألف قنبلة كيماوية, وهي كمية قياسية خلفت آلاف القتلى ودفعت الخطابي الى الاستسلام للمستعمرين حفاظاً على الارواح البشرية.أ
بصمات تلك المرحلة لم تمحها السنون، ليس من ذاكرة الناس فحسب، بل ايضاً وأساساً الواقع اليومي حيث تحولت الأرض الى امتداد شاسع من الحقول غير القابلة للزراعة لكن الأخطر أن الناس هناك يتوارثون منذ أجيال الجينات المسببة لأمراض السرطان، خصوصاً: «الرئتين والدم والجلد, وهذه حقيقة تؤكدها احصاءات رسمية.أ
ولذلك تطالب جمعية الدفاع عن الضحايا بألاّ تتوقف الدولة الاسبانية عند حدود الاعتذار عن جرائمها البشعة، بل المطلوب منها يضيف رئيس الجمعية هو «المساهمة في اقامة بنيات تحتية استشفائية لمعالجة هؤلاء الضحايا».أ
ويعتبر بالفور أول أكاديمي يتمكن من تفكيك رموز القنابل الكيماوية المستعملة في تلك الحرب القذرة, وهو اكتشاف مخيف لأن أبرز نتائجه «ان الاصابات السرطانية التي يتسبب فيها غاز الخردل، بإمكانها أن تنتقل عبر الأجيال المتعاقبة من خلال الجينات الوراثية», بمعنى ان امراض السرطان اصبحت وراثية لدى ساكنة الريف».أ
ويقول الياس العماري: «جمعيتنا تعتزم عرض القضية على منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة من أجل تحديد المسؤوليات»، غير ان السلطات المغربية لا تخفي انزعاجها من «جمعية ضحايا الغازات السامة بالريف»، حيث سبق ان منعت ندوتين دوليتين كانت الجمعية تنوي تنظيمهما في أبريل 2001 ويناير 2002، واستدعت للمشاركة فيهما خبراء دوليين في موضوع الغازات الكيماوية، من بينهم (سيباستيان بالفور).أ
وتخشى السلطات المغربية ـ حسب المراقبين ـ من ان يؤدي تنظيم ندوة حول الموضوع في الوقت الراهن، الى زيادة درجة تأزيم العلاقات مع اسبانيا، نظراً للاحقاد التاريخية بين الشعبين التي سيحركها النبش في ملفات الماضي.أ